عــصــام بــشــيـر الــعــوف
مــؤلــف و كــاتـب ســيــاسـي و إســلامــي
هذا الكتاب
ورد إذا ورد البحيرة شاربا ورد الفرات زئيره والنيلا
يطأ الثرى مترفقا من تيهه فكـأنـــه آس يجــس عليلا
هذان بيتان من قصيدة مؤلفة من ستة أبيات أو أكثر ، في كتاب القراءة والمحفوظات للصف الخامس أو السادس الابتدائي ، مطلوب منا أن نحفظها ، وما لفت نظري أنها للمتنبي ، ولم يكن هذا الاسم غريباً ، فقد قرأته على كتاب في مكتبة أبي ، تلك التي لا أجرؤ على لمس أي كتاب فيها ، فأبي لا يعجبه أن يعبث أحد بأشيائه وأغراضه ، لكنني في تلك الأمسية ، علمت أن أبي لن يكون في البيت ، ويمكنني أن أنظر داخل كتاب شرح ديوان المتنبي للدكتور عبد الرحمن البرقوقي ، وفي الوقت المناسب دخلت غرفة الضيوف الواسعة ، والمكتبة في أولها إلى اليسار ، وأزحت باب الزجاج وأخرجت الجزء الأول من الديوان ، وفتحت عدة صفحات منه ، لأجد بخط صغير بحاشية في أسفل الصفحة : هو أحمد بن الحسين الجعفي ، وعلق الجعفي في ذهني منذ تلك اللحظة . وشعرت بسرور بالغ من هذا الاكتشاف ، إن كتاب المدرسة يضم معلومات يمكن أن توجد في كتب أخرى ، كنت حينذاك في العاشرة أو الحادية عشرة من عمري .
واعتدت ارتياد المكتبة ، والتصفح في الكتب مطمئن البال ، لا أخشى شيئاً ، لكنني في أحد الأيام ، بعد عودتي من المدرسة ، دخلت المكتبة خلسة كعادتي ، وأخرجت ديوان المتنبي لأستذكر أول مرة قرأت فيها الجعفي ، وكأنني أريد التأكد من أنها مازالت في مكانها ، وغرقت مع الكتاب ، ولكنني أحسست بصوت مزلاج الباب يتحرك ، ورفعت رأسي ونظرت ، وجمدت الدماء في عروقي ، فهذا أبي يطل برأسه، ويدخل الغرفة ، واقترب نحوي ، وأخذ الكتاب من يدي ، ولكأنما قرأ مايدور في خلدي ، ومسح على رأسي ليهدئ من روعي ، وقال برفق : أنت تعلم أنني لا أحب أن يلمس أحد من أوراقي شيئاً ، ولا أن يعبث أحد بأغراضي مهما يكن ، ولكن أنت بالذات ، أسمح لك أن تدخل المكتبة ، وأن تقرأ في أي كتاب تريد ، ولكن بشرط هو أن تعيد الكتاب إلى مكانه . وأعاد ديوان المتنبي إلي مبتسماً ، وخرج من الغرفة ، وأغلق الباب خلفه .
لقد كان ذلك اليوم يوماً مشهوداً في حياتي ، لقد نشأت علاقة حب وعشق للكتاب يشتد وينمو يوماً بعد يوم ، وأصبحت القراءة غذاءاً يومياً ، ومتعة لا مثيل لها بين المتع . وبعد عام أو عامين انتقلت العائلة من دمشق إلى بيروت ، وبقيت المكتبة ملاذاً وملجأ، ونمت علاقة الصداقة مع الكتب وأماكنها ، وغدت في بيروت مكتبة كبيرة ومنوعة تحتل عدداً من الرفوف ، تغطي جداراً كاملاً من الغرفة الواسعة ، هناك كتاب المبسوط للإمام السرخسي ، والمدونة ، وفتح القدير ، وصحيح مسلم والبخاري ومسند الإمام أحمد ، وديوان جرير والفرزدق والأخطل وعمر بن أبي ربيعة وجميل بثينة والمعلقات العشر ، وتنوعت الصداقات واختلطت ، مع قصة الفلسفة اليونانية لزكي نجيب محمود ، وانتشارها مع توسع الامبراطورية الرومانية ، غير أنها لم تصل إلى الثقافات الأخرى ، إلا مع علماء المسلمين الذين قاموا بترجمتها ومناقشتها، وفي مقدمتهم ابن رشد ، ويعقوب الكندي والفارابي . وهذه كتب تضم الفلسفات الحديثة ، كالوجودية لعدد من الفلاسفة والاتجاهات ، وفي مقدمتهم سارتر وسيمون دي بوفوار ، والعبث والطاعون لألبير كامو ، واللامنتمي وسقوط الحضارة ورواية الشك لكولن ولسون . وكتب التاريخ القديمة والحديثة ، تاريخ الحضارات والدول للطبري وابن كثير ، وديورانت ، وتوينبي ، وابن خلدون ، والتاريخ الحديث السياسي والديني والاجتماعي والاقتصادي والقانوني ، والدساتير وتطورها في كل دولة على حدة ، في الولايات المتحدة وأوربا ، والدول الإسلامية وجميع الدول العربية ، كمصر وسورية ولبنان والسعودية والسودان والمغرب والجزائر والعراق ، ولا أستطيع أن أحصي مافي المكتبة من تنوع وشمول .
ولكنني أستطيع القول ، بأن والدي بشير العوف ، يرحمه الله ، قد جمع هذه المكتبة ، كتاباً كتاباً ، منذ كان صغيراً ، يشتريه من مصروفه ، وكان أول كتاب اشتراه ، هو زهر الآداب للحصري القيرواني ، وكان يكتب على الكتاب تاريخ قراءته ، كما ترى في حواشيه تعليقات وانطباعات ونقد .
وتوالت الأيام ، ثم تزوجت وأصبح لي منزلاً مستقلاً ، لكن غرامي مع المكتبة لم ينقطع ، إلى أن حل الألم الحقيقي حين قامت الحرب الأهلية اللبنانية التي أحرقت الأخضر واليابس في لبنان ، واضطررت إلى مغادرة لبنان إلى السعودية ، ذلك الوطن الذي همت به وعشقته وعرفت نفسي فيه، وبعدت المسافة وطال الفراق ، وكنت أزور بيروت مرة في السنة أستعيد فيها الذكريات والأصدقاء ، كما أتعرف على أصدقاء جدد في هذه المكتبة الأثيرة على نفسي ، ومات أبي ... وترك المكتبة ، وأي مملكة تساويها كما على لسان أحد أبطال الشاعر والمسرحي الإنكليزي الشهير وليم شكسبير .
وأثناء زياراتي المتقطعة لبيروت ، كنت أعرج على مكتبة أختي الدكتورة مؤمنة بشير العوف ، وأجالس مكتبتها الخاصة في غرفتها وأتنقل بين مجلداتها الضخمة ، وفي مقدمتها مجلدات ، مجلة الأديب لصاحبها ألبير أديب ، وتضم القصائد التي جادت بها قريحتها ، وكانت تكتبها باسمٍ مستعار هو سلافة العامري ، ومجلدات مجلة الآداب لصاحبها الدكتور سهيل إدريس ، وتضم الكثير من مساهماتها النثرية من الدراسات الأدبية والنقدية والقصص القصيرة . وما أصدرت من الكتب والدراسات الأدبية وروايتها ( بين المد والجزر) ودواوينها الشعرية . كما تضم أعدادا كثيرة من مجلة الموقف الأدبي ، وأعدادا من مجلة المشرق التي يصدرها عدد من الأساتذة من الآباء اليسوعيين في جامعة القديس يوسف ببيروت . وتحتوي مكتبتها أيضاً على الكثير من الدراسات والروايات للعديد من الكتّاب والروائيين والفلاسفة المعاصرين ، وقد كان لي في هذه المكتبة أصدقاء كثيرون أحببتهم واختلفت معهم ، ومازلت ألتقي معهم في كل زيارةٍ لبيروت.
ولعلي خلال إقامتي في جدة ، كنت أشتاق إلى الشعراء والفقهاء ، من مختلف العصور. وحين أترنم بقصيدةٍ ما لاتسعفني ذاكرتي في عددٍ من الأبيات ، وأشعر بحاجتي الماسة لهذه المكتبة ، التي أعرفها حق المعرفة في بيروت ، وكانت متابعتي قراءة الصحف السعودية بشغف ، تجعلني أتصيد العديد من القصائد التي أحبها ، المنشورة على صفحاتها الأدبية وهي غزيرة فيما تنشره من عيون الأدب العربي ، والتراث الجميل من جميع العصور .
وبالرغم من ذلك ، فقد بقي في النفس شيء ، وروادتني فكرة هذا الكتاب ، بأن أجمع ما أحب من الشعر في مجلدٍ واحد ، أضعه قريباً مني أتناوله وقت ماأشاء ، وتنامت الفكرة إلى ذكر تراجم الشعراء ، ولحق ذلك أن أجتهد في إحصاء جميع الشعراء في كل العصور ، ولما تم لي ذلك ، رأيت أن الكتاب لا يكتمل دون معرفة الأثر الإسلامي العظيم على اللغة العربية والأدب العربي والحياة العربية وذلك بمتابعة الفقهاء حسب العصور .
وغني عن القول ، بأنني قمت بجهد كبير ، في وضع هذا الكتاب ، وأمنيتي أن أكون قد نجحت في ذلك . ولا أخفي عن أحد أنني استعنت بشكلٍ كبير ، بمواقع الإنترنت ، وبالكثير جداً من الكتب والمراجع ، وإني أتوجه بالشكر العميق إلى هذه المواقع والكتب التي ذكرتها في المراجع .
أخيراً ، أرجو من القارئ الدعاء وما توفيقي إلا بالله .
عصام بشير العوف